كتابات

الواقع أقسى من المؤامرة.. فهل نواجهه بإرادة

كتب/ بشير الهدياني.
الإثنين 28 ذو القعدة 1446ه
الموافق 26 مايو 2025م

وسط الأزمات المعيشية التي تثقل كاهل المواطن في العاصمة عدن والمحافظات الأخرى– من انهيار منظومة الكهرباء، وتدهور سعر العملة، والضغط السكاني المتزايد – لم تعد نظرية “المؤامرة” وحدها قادرة على تفسير هذا الواقع القاسي،صحيح أن هناك أطرافًا تستغل هذا التدهور وتغذّيه، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن جزءًا كبيرًا من الأزمة ناتج عن غياب الإدارة، وافتقاد المقاربة الجادة لمعالجة الملفات الضاغطة على حياة الناس اليومية.

باعتباره شريكًا في الحكومة الشرعية، وبحكم سيطرته العسكرية على الأرض، بات المجلس الانتقالي الجنوبي في نظر المواطنين هو الجهة التي تتحمل المسؤولية المباشرة، بصرف النظر عن تعقيدات توزيع الصلاحيات أو تقاسم الموارد،الناس تحكم بمن هو موجود في الميدان، لا بمن يمتلك القرار المالي،وبالرغم من أن أغلب الإيرادات تذهب للحكومة المركزية، وفق ما يُتداول، إلا أن المواطن لا يفرّق بين من يملك التوقيع ومن يملك السيطرة،ولهذا فإن أي إخفاق، حتى وإن لم يكن المجلس سببه المباشر، يعود عليه سياسيًا وشعبيًا.

ومن أوجه القصور التي لا يمكن تجاهلها، غياب هيئة متخصصة داخل المجلس الانتقالي تُعنى بإدارة الأزمات، رغم وجود العديد من الهيئات التي لا يلمس المواطن لها دورًا مباشرًا في معالجة التحديات اليومية،فالمجلس، بصفته طرفًا فاعلًا وشريكًا في السلطة، كان بإمكانه تشكيل فريق فني أو هيئة مختصة تتولى بشكل مباشر ملف الكهرباء، والانهيار الاقتصادي، وقضية النزوح العشوائي، وغيرها من القضايا المتراكمة، لكن ما حدث هو ترك هذه الملفات في مهب التجاهل، مما ساهم في تفاقم الأزمات، وزاد من حجم التذمر الشعبي، مما أتاح للبعض الفرصة لطرح تساؤلات حول مدى الجاهزية والقدرة على إدارة المرحلة، وفتح المجال أمام قراءات وتأويلات متعددة لما يجري.

في ملف الكهرباء، مثلًا، كان من الممكن على المجلس أن يتخذ خطوة واقعية وعاجلة تتمثل بإلغاء الضرائب والجمارك على مستوردي منظومات الطاقة الشمسية، ما يخفّض أسعارها، ويمنح المواطنين بديلاً مؤقتًا للتخفيف من حدة الأزمة، خصوصًا في فصل الصيف الحار. حلول كهذه لا تحتاج ميزانيات ضخمة، بل فقط قرارًا جريئًا وإرادة وطنية.

أما في ملف النزوح، فلا أحد يعارض استضافة من شُرّدوا من ديارهم بسبب الحرب، لكن ما يجري اليوم ليس “نزوحًا” بالمعنى الحقيقي، وإنما تدفق سكاني غير منظم من مناطق شمالية لا تشهد حربًا فعلية،وإن كانت هناك ظروف صعبة في بعض المناطق، فإن التعامل مع النزوح يجب أن يكون منظمًا وتحت رقابة أمنية وإدارية، كما هو الحال في مأرب التي خصصت مناطق محددة للنازحين، وأحكمت إدارتها بشكل يحافظ على التوازن والخدمات في المدينة.

لقد عايشت بنفسي بداية هذه الأزمة عن قرب،ففي العام 2016م، ذهبت إلى مكتب عقاري في مدينة إنماء بحثًا عن شقة للإيجار، وكان السعر حينها يتراوح بين 40 إلى 70 ألف ريال، لأفاجأ بأن المكتب يعرض الشقة على أحد الوافدين من ذمار مقابل 150 الف ريال، دون تردد من الطرف الآخر،شعرت حينها أننا أمام أزمة إسكان قادمة، وهذا ما نشهده اليوم بأشكال متعددة،قبل أيام فقط، وخلال وجودي في أحد فروع مصرف الكريمي، سمعت بأذني أكثر من شخص يطالب بصرف راتبه وهو يكرر: “أنا نازح”، في مشهد يُظهر مدى العشوائية والفوضى التي باتت تسيطر على هذا الملف دون ضوابط.

ولأننا نكتب من موقع وطني ومهني، لا بد أن نُذكّر أن الصمت عن الخلل يرسّخه، وأن تأجيل المواجهة مع الواقع يزيد من كلفته، لا نُحمّل جهةً بعينها كامل المسؤولية، لكننا نرى أن المجلس الانتقالي – بما يمتلكه من نفوذ ميداني، ودعم سياسي، وحضور شعبي – هو الأقدر على البدء بخطوات تصحيحية فعلية، ليست كل الحلول بحاجة إلى ميزانيات، بل إلى رؤية، وعقول تفكر، وإرادة لا تخشى الحقيقة.

لذلك فإن اي تجاهل لهذه التحديات سيترك فراغًا تُملؤه أطراف أخرى، وقد يُستخدم ضد المجلس نفسه، مهما كانت نواياه،وإذا لم تُصغَ الأصوات العاقلة الآن، فقد يكون الغد أكثر تعقيدًا،لسنا أعداء لأحد، بل أبناء هذا الجنوب، نحمله في قلوبنا، وننتمي إلى مؤسساته، وننصح بصدق لأن الوطن يستحق، والشعب يستحق، والتاريخ لا يرحم من صمت حين كان عليه أن يتكلم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى