ثقافة وفن

“حديد نحاس بطاريات”… عندما ينتشلنا الحب من دوامة الجنون والعنصرية

اختار المخرج اللبناني وسام شرف في فيلمه الروائي الثاني “حديد نحاس بطاريات” (2022) الذي يعرض حالياً في الصالات اللبنانية، شخصيتين غير لبنانيّتين، ليحاكي الواقع اللبناني بانهياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وانحدار مستوى القيم الإنسانية فيه.

يحاكي الفيلم إعادة إنتاج العنصرية التي قد تنطبق على أي مجتمع ليس اللبناني أو العربي، بل ما يحصل في فلسطين وفي أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية ضد المهاجرين وما حصل في بدايات الهجرة من المغرب مثلاً الى فرنسا مع عمال المناجم وعدم إعطائهم حقوقهم إلا بعد ثورات عمالية متتالية وضخمة، أو ما حصل مع المهاجرين الأفارقة في الولايات المتحدة.
ويقول شرف الذي عرض فيلمه هذا في مهرجان البندقية في 2022، لـ “جسور”: “الفيلم عبارة عن قصة حب أردت من خلالها أن أتلاعب بموضوعي العنصرية والطبقية لأقول إن الانسان لم يعد يحب الانسان وأن العنصرية موجودة أينما كان، في لبنان وفي كل مكان”.

جنسيتان مثيرتان للجدل

اختار شرف أن تكون الشخصيتان من جنسيّتين مثيرتين للجدل في المجتمع اللبناني، شخصيتان مسحوقتان من الطبقات ما تحت الدنيا، حيث “يعيش” العمّال والعاملات المهاجرون والنازحون “مقيّدين” لا يتمتّعون بحقوقهم الإنسانية اللازمة. وقد أثارت موجات التحريض والعنصرية ضد السوريين في لبنان، وانقسام اللبنانيين بين مؤيّد لعودتهم الى سوريا وبين حمايتهم من النظام السوري مخافة من اعتقالهم أو قتلهم وبالتالي بقاؤهم في لبنان، جدلاً حكومياً وشعبياً وحزبياً وصل الى أورقة الأمم المتحدة ووضع على طاولات الحوار الدولية.
وكذا حصل مع تعنيف العاملات الأثيوبيات في لبنان، وإقامتهن في ظروف غير عادلة وغير إنسانية، و”رمي” الكثيرات منهن في الطرقات بعد انهيار العملة اللبنانية ودخول البلد في إفلاس عام.
هذه الشخصيات المهمّشة أراد شرف أن “يضعها في وسط الصورة ويسلط عليها الضوء، بعدما أصبحت أرى اللاجئين السوريين يصلون الشوارع اللبنانية بشكل يومي ومكثف يبحثون عن عمل ويجمعون الخردة ليبيعوها، وأثيوبيات يهميّن بمخدوميهن المسنين خاصة ويساعدنهم في الطرقات”.

لا عربي ولا أجنبي

أحمد شاب سوري (زياد جلاد) نازح من نيران الحرب في بلاده لا تزال شظايا القصف الصاروخي محفورة في جسده، وصبية إثيوبية تدعى مهدية (الفرنسية كلارا كوتوريه المرشحة لجائزة سيزار 2024) تعمل في بيت جنرال متقاعد فاقد للذاكرة (رفعت طربيه) وزوجته ليلى (دارينا الجندي). الإثنان غريبان في مدينة متناقضة، منهارة، باردة المشاعر، قاسية، القوانين فيها استنسابية… خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً!
الاثنان يعانيان من الفقر والدونية والتمييز العنصري نفسه بالدرجات نفسها، ولا يضمن القانون حمايتهما بحسب الاتفاقات الدولية الموقع عليها لبنان بالنسبة للعمالة الأجنبية وبالنسبة للاجئين. الأول أبيض بعيون ملوّنة ويتحدث العربية ويفهم لغة البلد وطُرقه الوعرة، والثانية أفريقية سمراء تعلّمت أن تقول نعم ولا فقط، وأن تكون وفية لمخدومها.
أحمد اختار الحرية على الرفاهية فاستوطن شوارع بيروت وأزقتها الضيقة وزواريبها القذرة، ليعيش وينام ويعمل منادياً بين الأحياء والبنايات ليلمّ الحديد والنحاس والبطاريات، ثم يبيعها بالكيلو ليكسب ما قد لا يشتري له ربطة خبز.. فنراه ينادي بأعلى صوته من على “بيك آب” وشعره يتطاير بالهواء وضحكته عرض وجهه، لكن عيونه حزينة وجسده نحيل… مشهد يحيلنا الى الحريات المزيفة والتي يدفع كثيرون حياتهم لأجلها لكنها تخذلهم!

حريّة مسجونة بجسد

هرب أحمد من الظلم، ولكنه سرعان ما تحوّل الى آلة كانت تكبر كل يوم مع امتداد الفوسفور أو الحديد في جسده وتحويله من لحم ودم الى معدنٍ بلا روح ولا نفع ربما، فهو حاول بيع كليته أو أي عضو من أعضائه ليسافر الى الغرب، لكنها غير نافعة لأنها ملوّثة بالفوسفور أو النحاس فأصبح هو الآخر يعيش بين حرية مزيفة لجأ لأجلها في الظاهر، لكنه في العمق مسجون وممنوع عليه التجوّل في شوارع العاصمة بعد السابعة مساء، وممنوع عليه الحب ممن يريد، ممنوع عليه العمل بشكل رسمي فأصبح مسجوناً بجسده ذاك الحديدي الآلي، الذي لم ينجح إلا بجذب وحب مهدية.
أما مهديّة فلم تختر شيئاً إلا الذهاب الى لبنان لتهرب من الفقر لكنها وقعت في فخّ واقع مأزوم مجهول، فسُجنت في بيت مع عجوز (يقوم بدوره رفعت طربيه) يصاب بنوبات مخيفة وينقضّ عليها أحياناً كالوحش ليفترسها متقمصاً شخصية فرانكشتاين. رغم أن ربة المنزل تعامل مهدية باحترام، لكن في النهاية هي ممنوعة من الخروج بحرية، ممنوعة من الحب، ممنوعة من الجنس، ممنوعة من إقامة علاقات اجتماعية.. كل شيء ممنوع.
وحدها الشرفة كانت تمنحها الهواء والإطلالة الى العالم الخارجي وعرّفتها على فتى أحلامها، فقط من فوق، من دون أن تغوص في العمق يسمح لها أن تشمّ الهواء ولا تتذوّقه كما يقول المثل اللبناني.

الحب وطن مفقود

استطاعت مهدية أن تفهم المجتمع أكثر من ناسه، فكمشت مفاتيحه وكشفت عنصريّته وشوفانتيه، وفهمت أن هذه البلاد لا ينقذها إلا الحب لأنها ممزقة بسبب ما مرّت به من موجات كراهية وطائفية وطبقية على مرّ العصور. صوت الشاب السوري حرّك قلبها، لوّحت له، فأحبها هو الغريب أيضاً فصار كل شخص هو وطن الآخر المفقود… علّمها هذا الحب الحرية والتمرّد على سجانيها والانعتاق من أطر الدين والمحرّمات، وعلّمته هي معنى العطاء وإن كانت لا تملك إلا ثمن قوتها ليوم واحد. جمعتهما القسوة والطوق الى الحرية الحقيقية، والعنصرية المقيتة، وعدم اندماج المجتمع معهما وعدم فهم الناس للغتهما وأهدافهما وحتى لحبّهما الذي كان مرفوضاً من كل الجهات المعنية والسلطات العليا.
أول الرافضين أصحاب البيت، فعندما اكتشفا علاقة حب مهدية وأحمد، سجناها في البيت وقررا استبدالها وثاني الرافضين زملاء أحمد في العمل والمسكن حيث يستأجر النوم على السرير بالساعة، لشدّة الفقر فهم يعتبرون هذا النوع من الحب محرّم، ويرفضونه لأن الحبيبة أفريقية ويتّهمونها بالدعارة! أما أمّ أحمد (كارول عبود) المقيمة في مخيّم للاجئين السوريين في البقاع، ومصابة بصدمة بعد قتل زوجها، الأم المضطهدة وممنوع عليها التجول ككل اللاجئين في المدن والقرى اللبنانية بعد السابعة مساء، هي نفسها أرادت أن تمارس سلطتها على مهدية وأن تعاملها بفوقية وتطلب منها تنظيف الخيمة ومحيطها!
قد يكون هذا المشهد من أقوى المشاهد التي تحيلنا الى أن العنف يولد العنف والعنصرية تولد العنصرية، وأن قبول الآخر واحترام الانسان لا يُدرّس بل يُكتسب بالتربية والثقافة العامة المجتمعية.

إنسيابية وبساطة العناصر

النص الدرامي (كتابة وسام شرف وهالة دبجي ومارييت ديزير) المنساب البسيط في ظاهره والسياسي في عمقه، لا يتبنى أي حكم على أحد ولا يتّخذ موقفاً من شعب أو قضية ولا يدين سلطة أو دين أو قانون. هو يروي قصة حب بين شخصين ظلمتهما الحياة والبشر، في بلد “مجنون” كما قالت بطلة الفيلم مستخدمًا تارة السخرية وتارة أخرى التهريج والكوميديا التي يمثّلها هنا أفضل تمثيل الممثل القدير رفعت طربيه بدور إبراهيم فقد عرف شرف أن يقرأ قضية العنصرية في طبقات درامية مختلفة أقرب الى الواقعية السحرية.
يوازي وسام شرف بين انسياب النص وانسياب الإخراج وإدارته للممثلين واختيار الموسيقى لزيد حمدان، إذ تجتمع عناصر الفيلم البصرية والسمعية تحت عنوان عدم التكلّف ليتماهى مع القصة والبطلين وهوية السيناريو المنطلق من الطبقات الدنيا. فلا إدّعاءات إخراجية ولا انفعالات لا لزوم لها، الصورة صادقة هادئة ومعبّرة.
فهو لم يختر الدراما الحزينة التي تصوّر العنف المباشر والبكاء والأسى واللاإنسانية، “من أسهل الأمور أن أصور فيلماً يُبكي الناس من جراء معاناة البشر وهو ما نراه كل يوم في نشرات الاخبار، وليس جديداً”، كما يقول شرف. ويفيد بأنه “كسينمائي أراد أن يذهب الى أبعد من الخبر والانفعال المباشر، وهو الحب الذي أراه أسمى وأعلا من كل القضايا وإن كان عنصراً كلاسيكيا في السينما، لكن التضاد يظهر قوّة الموضوع الأساسي في بيئة قاسية”
وحول إدارته للممثلين من خلفيات مختلفة وتجارب متفاوتة حديثة وعريقة، قال: “جرّبت أن أضع كل ممثل في مكانه المناسب، زياد جلاد وكلارا مثلاً لديهما نظرة وملامح حزن معبّرة وتلقائية، فلم أزد على ملامهما الطبيعية أي عنصر.
أما رفعت طربيه فهو ممثل قديم قدير وآتٍ من خلفية مسرحية ويشبه بوسترات مصاص الدماء في الأفلام ولديه صوت جهوري وبُعد قوي يخدم الدور، ودارينا الجندي مثّلت في أكثر أفلامي وهي ممثلة باهرة وتؤدي دورها ببراعة وكارول عبود خدمتني بلقطة صغيرة أيضاً فقد أحببت أن أجمع بين أجيال مختلفة ومن جنسيات مختلفة لأخدم ما أريد قوله بطريقة ساخرة ومعبّرة وهو انعدام الحب بينما الممثلين عملوا مع بعضهم البعض بحب”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى