منوعات

زمن الجدب

زمن الجدب
***********
اليوم: الأحد
الزمان: الحادية عشرة قبل الظهر.
التاريخ: 10/ مارس/ 2024م.
المكان: كلية التربية /عدن، خورمكسر

د. علي غالب حسن الصبيحي

على مضض، ولضرورة حياتية قادتني قدماي للخروج من البيت إلى كلية التربية / خورمكسر، في محافظة عدن، وأنا المنقطع عن الدخول لهذا الصرح العلمي والأكاديمي لشهور طويلة ، إن لم تكن قد تجاوزت السنة نتيجة وضعي الصحي وسفري خارج الوطن.

دلفتُ إلى داخل الكلية وعند الباب وجدتُ حارسًا مدنيا شابا غير معروف فسألني فعرفت بنفسي وغرضي من الدخول، فأحزنني وحزّ في نفسي منظر الكلية ووضعها المجدب المقفر، وقرأت منه أن المشهد القادم سيكون قاتمًا وخريفًا ستشتدّ رياحه وأعاصيره، وهو يعكس جدب الحياة العلمية والأكاديمية والثقافية والطبيعة المحيطة بهذه المباني القديمة التي تهالكت واغبرّت.

شعرتُ بغصةٍ تخنق روحي وتكتم أنفاسي وأنا أرى النخلةَ التي توجد مقابل قسم اللغة العربية وقد تعرّت من كل شيء وأسبلت ُسُعفها المتبقي على جسدها الذي أبى الانحناء في زمن الضمأ المادي والروحي، حتى لكأنها تحاكي وترسم لوحة للفناء الذي نعيشه ونحن أحياء في زمن الغُربة في وطنٍ شاخ قبل أن يذوق الطفولة والشباب، و انهكته العثرات والعلل المزمنة ، التي مثَّل ويمثِّل أدوارها شُلة من المارقين واللصوص تربعوا على عرشه وما انفكوا، وعلى جدار القسم لوحة تعريفية بقسم اللغة العربية وبداياته وأشهر من تولوا رئاسة القسم من المخضرمين ممن تتلمذنا على أيديهم .
في هذا الجو المجدب وأبواب الأقسام موصدة والأشجار قد هلَّت وتساقطت أوراقها ، وهذه النخلة تعكس وتترجم وتجسِّد المشهد في أوضح تعبير.

هذا المكان الذي كان عامرا ببسمات ودموع الدكتور مبارك حسن الخليفة وطيبة وخلق الدكتور عبد المطلب جبر وجدية ونقاء الدكتور أحمد العزعزي ،وهيبة وسمو الدكاترة العراقيين أمثال الدكتور عبد الكريم توفيق والدكتور صاحب خليل إبراهيم وغيرهم رحمة الله تغشاهم، صار اليوم مهجورا وموحشا وأقفرَّت الساحات من طلاب وطالبات كان لهم أزيز مثل أزيز النحل، ودبيب مثل دبيب النمل، وكان زمن رخاء وزمن عطاء، فانقلبت الأمور وعُمّرَت المعسكرات وخلت الكليات من ذلك الزخم الذي كان يزين هذه الساحات، وصار الدكتور ينتظر بفارغ الصبر القروش البسيطة التي يتقاضها في تاريخ 59 أو 61 أو 65 بعد أن كَبُر الشهر وتعملق، وتغول الريال السعودي والدولار على ريالنا الهزيل السقيم ، وصارت أمنية كثير من الدكاترة والمعلمين الأجلاء أن لو يستطيع بعض طلابهم الذين لازالت شهائدهم مرهونة ببعض المواد الدراسية المعلقة عليهم من قادة الألوية والمعسكرات والمحاور ، أن لو يستوعبونهم ضمن أفراد هذه المعسكرات ليحظوا بملامسة الريال السعودي ومايصحبه من مصروف يومي وتوابعه من الغذاء والمشروبات و….و……واللهم لاحسد.

مشهد غاية في الجدب والاقفرار، يوحي بما هو أشد في الأيام القادمات.

لحظات وصعدت إلى الدرج الموصل للدراسات العليا ، وأنا أمشي بلطف ورفق، متحسسًا بيدي مواضع الكليتين رعبًا من آلام حصوات وأملاح اتخذت من جسمي وطنًا، حيث ينتظرني زميلي الغالي الدكتور علي القحطاني الذي صافحني وهنأني بسلامة العودة والصحة، وعلى خجل مني ومنه أومأ لي بكرت صغير ضمن كروت سنوية خاصة بسلة غذائية يسعى فيها الدكتور القحطاني – مشكورا- لزملائه الذين لم يتم تسوية رواتبهم ، فشكرته ودعوتُ له وعدتُ لأقف ثانية أمام هذا المشهد المجدب والتقطت هذه الصور لأذرف على أطلالها دموووع روح تشربت من معين هذا الينبوع مالا يُنسى ولاينمحي ولأدعو لمن ذكرتهم ممن توفاهم الله من الكلية عامة وقسم اللغة العربية خاصة بالمغفرة والرحمة، وبالصحة والعافية لرموزنا من المخضرمين الأحياء، أمثال: الدكتور سالم علي سعيد، والدكتور محمد علي يحيى، والدكتور الهمداني ، والدكتور أحمد سالم الضريبي، والدكتور مسعود عمشوش وبقية أعضاء القسم من أساتذتنا الكرام وزملائنا في القسم خاصة، والكلية والجامعة عامة دون استثناء وشهر كريم وكل عام وانتم بخير.

د. علي غالب حسن الصبيحي.

10/ مارس/ 2024م.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى